فتاة بسيطة، رغم سنها الذي تخطى مرحلة المراهقة بكثير وأصبحت على مشارف الثلاثين، إلا أنها مازالت الصغيرة الحالمة التي تعيش في عالمها الخيالي التي صنعته هروبا من مجتمع ينظر لها بقسوة بسبب شيء ليس بإرادتها وهو عدم الزواج حتى هذا السن، فتواجه كلمات قاسية حتى من أقرب الناس إليها، كانت راضية بحالها ومستسلمة وتكتفي فقط بلحظات الخيال أو التوحد مع مسلسل تركي لن ترى أحداثه أو تعيش دقيقة منها سوى من خلال الشاشة الصغيرة التي تتوحد معها بكامل حواسها لتتغيب عن الواقع الحقيقي، حتى أتى ما غيّر حياتها رأسًا على عقب، لتتحول من الفتاة البريئة إلى شخص يلهث وراء المشاهدات واللايكات ويفعل أي شيء في مقابل الحصول على المال للتخلص من الفقر والحاجة، وسط غياب رقابة الأهل وجهل واضح بأمور الحياة لانعدام الخبرة فكانت النتيجة مأساوية. مشاكل السوشيال ميديا تُجسد ببراعة في أعلى نسبة مشاهدةهكذا كانت جرعة المخرجة ياسمين أحمد علي التي استمرت على مدار 16 حلقة في مسلسل "أعلى نسبة مشاهدة"، الحصان الأسود في رمضان، وكسب الرهان بتفوق واضح، إذ حصد إشادات وإعجابات واسعة من قبل الجمهور الذي أكد أنه قصة جديدة وحبكة محكمة ورسالة هادفة وصريحة جسدت واقع مجتمعي .مشكلة تيك توك واستسهال الربح من خلاله مشكلة العصر التي لا تلقي المسلسلات لها بالا بشكل كبير، ليأتي أعلى نسبة مشاهدة ويقدم رسالة حقيقية توضح لنا الوجه الآخر للفتيات اللاتي تورطن في قضايا مخلة بالآداب نظرا للأفعال الخليعة اللاتي يفعلونها لجمع المال من هذا التطبيق، فهو وسيلة سريعة لشخص يعاني من فقر وحاجة، وبمجرد أن يرى المكاسب كإنه رأى كنزًا يعمي عينه ويعطل عقله. المسلسل أوضح لنا جيدا الوجه الآخر للفتيات التيك توكرز أصحاب الفيديوهات المتجاوزة، والتي تجسدت في شخصية "شيماء" البطلة (سلمى أبو ضيف) التي بمجرد أن يرى المجتمع النموذج الحقيقي منها يحكم عليها بـ"العهر" ويحتقرها، فرأينا لماذا وصل بعض الفتيات لتلك النقطة، وكيف أن البيئة التي نشأت بها وتعليمها البسيط وضغوط الحاجة للمال والاحتياج للاحتواء يمكن أن يصلوا بها في النهاية إلى سجن القضبان وسجن المجتمع أيضا في صورة الفتاة عديمة الأخلاق.إشادات ضخمة بالمسلسل وفكرته أحداث سريعة تخلو من المط والتطويل، ولم تكن بسذاجة بعض الأعمال في أنها تجسد كم الرفاهية والراحة للشخص التي يمكن أن يتمتع بها الشخص الذي يفعل الخطأ، ثم يقتصر العقاب في حلقة النهاية فقط، فلم نرى أن البطلة كانت تعيش في رغد بسبب الأموال ثم أتى العقاب بشكل مفاجئ في الحلقة الأخيرة كما يستسهل بعض المؤلفين والمخرجين، بل كان هذا المسلسل مختلفًا، نجد في كل حلقة أن الخطأ له عقاب حتى إن كان نفسيًا، يتجسد في عذاب الضمير والتوتر والقلق النفسي دون الاستمتاع بالأموال، جهل البطلة سلمى أبو ضيف بأمور عدة في الحياة تجعلها لا تفهم ما تفعله وتنساق وراء من يستغلها فلا تشعر براحة أبدا منذ أن دخلت في تلك الدائرة.اعتمد سيناريو المسلسل على مجموعة من الوقائع الحقيقية للعديد من فتيات "البلوجرز" الشهيرات في مصر؛ اللاتي انتهى بهن الحال إلى السجن، والمتابع للحلقات يجد تشابه بين العديد من المشاهد والقصص الحقيقية. براعة في أداء الممثلينشيماء التي جسدتها الفنانة سلمى أبو ضيف ببراعة، يشعر المشاهد بحيرة أمامها، بين التعاطف أو أنها تستحق العقاب، فهي شخصية ليست قيادية، تترك الحياة تسوقها، واستطاعت الفنانة أن تجسد الشخصية بشكل طبيعي مبهر من حيث طريقة الكلام التي تظهر أنها فتاة شعبية تعليمها متوسط، والبراءة في عينها، التي لم تغيرها قسوة الأحداث، يتبين جهلها عندما تتحدث مع صديقتها "سحر" وتخبرها أنها لم تصدق نفسها من الفرحة بسبب معرفة الناس بها، حتى حسابها الرسمي على السوشيال ميديا، قامت بإنشائه صديقتها "سحر".سلمى أبو ضيف لا يمكن أن تفرقها عن "شيماء"، رغم أن سلمى كان معهود عنها أنها فتاة من الطبقة التي يتم تصنيفها a class، إلا أنها خرجت من شخصيتها ببراعة لتنتقل إلى شخصية شيماء الشعبية، ببساطة دون مبالغة، تتحدث كفتيات التيك توك تماما، ما جعل الجمهور يصفها بـ"الرائعة" وأن "الدور متفصل عليها". وببراعة أخرى، جاءت شخصية نسمة الكاريزما (ليلى زاهر)، التي منذ ان تراها من اللحظة الأولى لا تملك إلا أن تكرهها فهي أخت أنانية ومتآمرة، ونتاج طبيعي للفقر والرغبة في الثراء بآي ثمن، ونظل كمشاهدين نكرهها حتى تأتي اللحظة التي تفتح فيها قلبها وتكتشف أنها أصبحت ما عليه بسبب التفرقة في المعاملة وتفهم الظروف النفسية التي جعلتها كذلك، ليتغير الشعور تجاهها من الكره إلى الشفقة على ما وصلت إليه، ليلى جسدت مشاكل جيل كامل يصبح نرجسيا ولديه تشوهات نفسية بسبب تربية الأهل والظروف المحيطة وحلم الثراء الكاذب. أما الأم التي لعبتها انتصار فهي أعطت دروسًا تمثيلية بهذا الدور تجعل المشاهد يتساءل كيف أصبحت واقعية وحقيقية لهذا الحد، فهي مثال للأم غير المتعلمة التي تنحصر أفكارها أن أبنائها يحتاجون فقط للمال، فتسعى ورائه دون أن تفكر للحظة في أن بناتها يحتاجون لاحتواء عاطفي، فرّقت بينهما في المعاملة بجهل شديد فصنعت حاجز نفسي وغيرة بين الأبناء، تلقي بكلمات قاسية وتعتبر ابنتها عانس، بدافع الخوف عليها وتشجيعها على الزواج، لكن لا تعلم أن ذلك يأتي بنتيجة عكسية، واستخدمت انتصار النظرات وحتى أدق التعبيرات لتكون تلك الأم وتجسدها جيدا، ورغم أن دور انتصار يعتبر ثانوي، إلا أنها أصبحت به نجمة الجزء الأول من رمضان، كما أنه كان لها مشهد يُدرّس في المحكمة وقت الحكم على ابنتها بالسجن بعد الفيديوهات المتداولة، إذ كانت نظراتها عميقة وتحمل ألف معنى.كما أن أهم ما ميز المخرجة ياسمين أحمد كامل في هذا العمل، هو بساطة سرد القصة ووضع المشاهد في الحكاية، وخلق إحساس بالغموض باستخدام حدث من المستقبل قبل "التترات" مع بداية كل حلقة من المسلسل.بالإضافة إلى تركيبات الإضاءة الخافتة معظم الوقت، لما يخلقه المكان المظلم والكئيب من شعور بالخوف والفقر، وعلى عكس ذلك، كانت الأماكن التي تعيش بها كاميليا وطارق، هذا العالم الموازي لحياة شيماء ونسمة، النابض بالحياة ويخلق بيئة أكثر روعة. بالنسبة للفنان محمد محمود، فقد أطلق عليه الجمهور لقب "أحسب أب في 2024"، وذلك بعدما جاء في المسلسل بهذا اللقب، فكان قادرا على تجسيد مشاعر الأب الذي يرسخ كل وقته لجلب المال ليستطيع مجاراة الحياة، يعامل فتياته بحنية، كان مدرك بما يكفي أنه يتحمل مسئولية ما وصل إليه بناته ولجأوهن إلى تيك توك وظهر هذا جيدا في المشهد الذي أبدع فيه داخل المحكمة في مرافعة قضية ابنته شيماء.وفي مشهد وصفه الجمهور بـ"التاريخي"، جاء على لسان الفنان كلمات صادقة وهو يدافع عن ابنته في المحكمة، ولخص ما يحدث من حرب العقول التي تستهدف الشباب. حيث قال “ ارجوك يا سيادة القاضي متلفش على رقبتها حبل المشـ ـنقة.. لو عاوز تحاكم حاكمني انا يا سيادة القاضي، بس قبل ما تحاكم حاكم الظروف، حاكم المجتمع.. حاكم الدنيا اللي اتغيرت! الصح اللي بقى غلط والغلط اللي بقى صح حضرتك سيد من يعلم ان الحر وب دلوقتي مبقتش طيارات ودبابات مبقتش ضرب أهداف حيوية بقت ضرب المجتمع في اعز ما يملك، في شبابه، في ضرب ثوابت دينة، في أخلاقه، في مبادئه، في التشتيت في الرموز.. في تخوين الشرفاء في البلد”. كذلك كان دور الأخت الكبرى فرح يوسف مثار للإعجاب نظرًا لأنها تناقش مشكلة من نوع آخر غير تيك توك، وهي الفتاة التي تتزوج زيجة عادية ثم تكتشف سوء خلق زوجها، لكنها تضطر أن تتحمل خاصة بعدما أصبحت أم لطفل مازال في سنواته الأولى، فتتحمل الإهانة المستمرة وسوء المعاملة خوفا من أن تكون مطلقة وتعود لأهلها مرة أخرى ومعها طفلها. ومع انتهاء المسلسل حظت تلك التوليفة بإعجاب كبير بالرسالة التي تقدمها واستغلت تأثير الفن في العقول بأن تقدم دروسًا وعظة قد تمنع كوارث.