في عصر المتاحف الذكية، لم يعد التراث مجرد قطع أثرية بين جدران صامتة، بل أصبح تجربة رقمية تفاعلية تجمع بين الماضي والتقنيات الحديثة، ويأتي المتحف المصري الكبير كنموذج بارز لهذا التحول، إذ يضم أكثر من 100 ألف قطعة أثرية ويوظف أحدث أدوات الواقع المختلط والذكاء الاصطناعي والأرشفة الرقمية ليخلق للزوار تجربة غير مسبوقة ترسم ملامح مستقبل المتاحف.وكما يقول أحمد غنيم، الرئيس التنفيذي للمتحف: "باستخدام تقنية HoloLens، الزائر لا ينظر فقط إلى التاريخ، بل يدخل داخله." في هذا المقال نستعرض كيف أصبح GEM أحد رواد المتاحف الذكية عالميًا، مجسدًا مزيج الابتكار الثقافي والريادة التقنية التي تغيّر نظرتنا للمتاحف والتراث.تقنيات العرض التفاعلي: الواقع المعزز والمختلطيوفر المتحف للزوار نظارات Microsoft HoloLens، التي توفر تجربة واقع مختلط فريدة، حيث يرتدي الزائر النظارة ليشهد تحولًا فورًا، الآثار تتحول إلى عروض ثلاثية الأبعاد محاطة بمشاهد افتراضية، والأهرام تظهر بمزيج من الضوء والصوت، ليستمع للسرد التاريخي بصوت الممثل أحمد حلمي.ومن أشهر التجاربة، تجربة رحلة الدفن الملكية، حيث يسير الزائر افتراضيًا بين حجرات دفن محاكاة ويشهد تطور طرق الدفن في الحضارة المصرية القديمة من القبور البسيطة وصولًا إلى أهرام الجيزة، العرض ليس مسجل على شاشة، بل تجربة غامرة ثلاثية الأبعاد يشارك فيها الزائر مباشرةً.الشاشات الرقمية التفاعلية: قصص الحضارة المصريةالمتحف يعرض شاشات ضخمة بتقنيات رسوم متحركة عالية الدقة:Pyramid Builders (بناة الأهرام): رسم متحرك يتابع يومًا عاديًا في حياة عمال بناء الهرم الأكبر، يُظهر تفاصيل دقيقة لحياة العمال وحركاتهم وأدواتهم.Houses of Eternity (دور الخلود): أربع مكعبات مضاءة تعرض رسومات قبور ملونة توضح كيفية استعداد المصريين للآخرة.The Book of Two Ways (كتاب الطريقتين): شاشة ضخمة تصور الرحلة الروحية للمتوفى عبر الحياة الآخرة، معتمدة على أقدم خريطة معروفة للعالم الآخر.Expedition to Punt (رحلة بونت): شاشة سينمائية منحنية تُعيد إنتاج رحلة التجارة الشهيرة للملكة حتشبسوت.New Kingdom Empire (إمبراطورية الدولة الحديثة): جدران مزينة برسومات من معابد الأقصر توضح قوة الفراعنة.Hymn to the Aten (تسبيحة آتون): عرض متعدد الشاشات يُصور الملك أخناتون يعبد إله الشمس مع آيات من النصوص الدينية.معارض الكهوف الأربعة: تجارب غامرة متخصصةوالذي يجعل المتحف المصري الكبير واحد من المتاحف الذكية في العصر الحالي، احتواءه أيضًا على أربع معارض كهفية معزلة بتصميم خاص تجمع بين المعروضات الفعلية والعروض الرقمية:كاهنات حتحور: مخصص للكاهنات الملكيات للإلهة حتحور؛ آلهة الموسيقى والخصوبة، ويعرض متعلقات الكاهنة أموينت مع شاشات مضاءة وأداء صوتي لنشيد قديم.وادي الملوك: يعرض أشياء من القبور الملكية في الضفة الغربية من الأقصر مع عروض وسائط متعددة توضح الرحلة الروحية للملك إلى الآخرة.ديرالمدينة: يُمثل بلدة ديرالمدينة القديمة؛ منزل الفنانين الذين زينوا القبور الملكية، يتضمن إعادة بناء دقيقة لمنزل قروي تقليدي مع المعروضات الأثرية.الإسكندرية تحت الماء: مخصص للمدن الغارقة في الإسكندرية القديمة، يعرض رسوم متحركة وشاشات توضح استكشاف الغطاسين للمواقع الغارقة، مع التركيز على منار الإسكندرية وقصرها ومعبدها الغارق.قبر توت عنخ آمون: محاكاة افتراضية كاملةتأخذ تجربة الواقع الافتراضي في المتحف المصري الكبير الزائر إلى لحظة اكتشاف مقبرة الملك توت عنخ آمون عام 1922، حيث يسير افتراضًا عبر حجرات القبر كما ظهرت يوم فتحها للمرة الأولى. تعتمد التجربة على الصور الأرشيفية الأصلية ومقتطفات من مذكرات عالم الآثار هاورد كارتر، مع مؤثرات صوتية وإضاءة دقيقة تعيد بناء أجواء الحدث التاريخي. يركز العرض على لحظة إعلان كارتر عبارته الشهيرة "أشياء رائعة!" عند فتح المدخل، ليستعيد الزائر أجواء الاكتشاف بحذافيرها وبسرد علمي يواكب المصادر والملاحظات التاريخية، مقدمًا تجربة سينمائية غامرة وموثوقة تعكس عمق الإنجاز الأثري في ذلك العصر.الذكاء الاصطناعي والتطبيقات الذكيةتطبيق مانيتو: هو أول مترجم ذكي للهيروغليفية، فاز بمسابقة Huawei Developer 2024، حيث يستخدم الرؤية الحاسوبية لتمييز الرموز الهيروغليفية ويترجمها إلى عربي وإنجليزي مع السياق التاريخي الكامل.التجربة الرقمية عند الدخول: الزائر يلتقط صورة لنفسه، يختار أي قطعة أثرية يريدها أن تظهر بجانبه، والصورة تُسقط بالأثر الافتراضي فورًا ويتلقاها عبر البريد الإلكتروني مجانًا. حسب أحمد غنيم الرئيس التنفيذي للمتحف المصري الكبير: "إنها طريقة حديثة لربط الزوار بكنوز المتحف وترك لهم ذكرى شخصية من زيارتهم".الأرشفة الرقمية والحفظ العلميالمتحف يستخدم تقنية المسح ثلاثي الأبعاد (3D Scanning) لإنشاء نسخ رقمية دقيقة من كل قطعة أثرية. فريق الوكالة اليابانية للتعاون الدولي (JICA) دربت فرقًا مصرية على أجهزة المسح المحمولة عالية الدقة.مركز الترميم في المتحف المصري القديم يغطي 32,000 متر مربع مع 19 معملًا متخصصًا: ستة معامل للترميم الفعلي (خشب، عضوي، غير عضوي، حجري، مومياوات، آثار ثقيلة) ومعامل للصيانة الوقائية والفحص.وقبل ترميم أي قطعة معقدة، يتم محاكاة العملية رقميًا بشكل كامل، ليرى الفريق النتيجة الافتراضية قبل لمس الأصل، لتقليل مخاطر الخطأ وضمان اتباع أفضل الممارسات العلمية.إدارة المتحف الذكية والحفظ البيئيشبكة أجهزة الاستشعار (IoT) تراقب المتحف بشكل مستمر من حيث: درجة الحرارة، الرطوبة النسبية، والإضاءة، ويعمل النظام بشكل تلقائي دون تدخل يدوي لضمان البيئة المثالية الثابتة للمتحف.ويعتمد نظام الأمان على كاميرات الرؤية الحاسوبية المتقدمة، حيث يحلل الفيديو فورًا لاكتشاف أي حركات غير طبيعية، يتابع الاقتراب غير المسموح به من الآثار الثمينة، ويستخدم التعرف على الوجوه لتحديد الأشخاص المدرجين على قوائم الممنوعين.تأثير المتحف المصري الكبير على الاقتصاد والسياحة المصريةمصر شهدت زيادة 24% في السياح في النصف الأول من 2025 وبلغ الرقم 8.7 مليون زائر، ويتوقع أن يجذب المتحف سنويًا 5 مليون زائر.كل دولار ينفقه السائح يولد 2-3 دولارات إضافية في الاقتصاد الأوسع، وتساهم السياحة في الوقت الحالي بـ 8.5% من الناتج المحلي الإجمالي، ومع نجاح المتحف، يتوقع الوصول إلى 10% والذي يعني مليارات الدولارات سنويًا إضافية.سياسات الشمول وتيسير زيارة المتحفيحرص المتحف الكبير على توفير تجربة متكاملة تضمن سهولة الوصول لجميع الزوار دون استثناء. تشمل التسهيلات خرائط لمس وطريقة برايل للمكفوفين، وتوفير سيارات جولف مجانية للأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة لسهولة التنقل، بالإضافة إلى نظام حجز إلكتروني مزود بتقنية التعرف على الوجه، مع منح دخول مجاني للأطفال دون سن السادسة وذوي الاحتياجات الخاصة، والذي يعكس التزام المتحف بالشمول والمساواة الثقافية.المتحف الكبير: مستقبل المتاحف الذكيةالمتحف المصري الكبير يدمج التاريخ والتكنولوجيا والاقتصاد في تجربة واحدة متكاملة، يضم 100 ألف قطعة تحكي 5000 سنة من الحضارة، ويدعمها AR وVR والواقع المختلط والذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء.هذا المزج يضع مصر في الطليعة العالمية من حيث توظيف التكنولوجيا في الحفاظ على التراث الثقافي، ليثبت أن الماضي والمستقبل يمكنهما السير معًا، وأن التكنولوجيا ليست عدوًا للثقافة، بل أداة قوية لإحياؤها.